عبد المجيد فنيش
سعيد المفتاحي في خطوة غير مسبوقة .
حين أدعوكم لإمعان الانصات إلى جديد المبدع سعيد
المفتاحي و نحن نعيش بداية سنة
جديدة , فإنني أدعوكم إلى حضرة فنون إلتقت جميعها و انصهرت في مزج سحري , و كانت
عند النهاية مساحة الإمتاع و المؤانسة .
و حين أقول إن هذا الألبوم , هو حدث فني بامتياز يدشن به
المفتاحي عهدا فنيا واعدا , فإني أرغب في اكتشافكم الذاتي لهذا اللقاء الفريد
لفنون الأمس مع فنون اليوم .
في الأمس كان الملحون بنمطه التقليدي , و اليوم نحن نحيا
أزمنة الأنماط الموسيقية المتجددة , وفي هذا الألبوم التقت كل هذه الأزمنة .
كيف ذلك ؟ .
يقترح علينا الفنان الباحث سعيد المفتاحي في ألبومه ست
أغنيات فيها من مقومات الملحون روحه و كنهه , وفيها من آليات الموسيقى الحديثة
شكلها .
إنه حقا رهان كبير أن يغامر هذا الفنان القادم من عمق
الأصالة , ليقدم لنا هذا التركيب الجديد لفنون ظلت حتى أيام قليلة متنافرة و
أحيانا متناقضة .
لكن إيمان هذا الفنان بأن الأصالة الحقيقية هي التي
تتوفر على كل مقومات تجددها , جعله يكسب في هذه التجربة الرهان .
في أغانيه الست هاته , يتناول المفتاحي بألحان وتوزيعات
موسيقية غير مألوفة في الملحون التقليدي , قضايا جديرة بالاهتمام تكتسب قوتها و
شرعيتها من واقع الحياة اليومية سواء في ديار المهجر , أو في الأوطان الأصلية ,
كقضايا الغربة و الاغتراب , و الهجرة السرية , دون أن يفرط في ما يحرك الوجدان حيث
حضرت الأغنية العاطفية , و كذا أغنية التأمل في الوجود في حياة الدنيا التي هي
مجرد ممر نحو حياة أخرى .
و يصر الفنان سعيد المفتاحي , على أن يؤكد لمن في
أذهانهم شك , بأن قصيدة الملحون التقليدية تختزن في ذاتها ما يؤهلها لتلبس لباسا
جديد وذلك بإضافة لمسات تراهن على الوظيفة الموسيقية , و ذلك ما فعل تماما في
تعامله ما قصيدة الأم لناظمها في السبعينات الشاعر عبد المجيد وهبي .
أربع أغنيات من شعر المفتاحي و الخامسة لشاعر آخر, و
السادسة سرابة , و ما يجمع بينها كلها هو أسلوب المفتاحي في التعامل مع الكلمة و
مع الايقاع و مع النغم .
في أغنية (( التوبة )) يعتمد سعيد على ما يعرف بنظم
الرباعيات في الأدب الشعبي , و يقول متوجها إلى الله تعالى :
راني نبكي على ذنوبي , رحمتك نرجاها
تسمح لعبدك الضعيف , و اغفرلو فخطاه
يا الرؤوف من لا ينام , خالق للأرض سماها
يا مالك الملك و الرحيم , العزيز أنت الله .
إنه في هذه الأغنية يؤكد تشبعه بأخلاقيات المسلم , و
بأعراف شيوخ الشعر الشعبيين الذين مهما نظموا في الأغراض المختلفة , فإن نشوتهم لا
تتم إلآ بنظمهم في
مواضع التأمل في الحياة و الإستغفار .
أما في أغنية (( رسالة )) التي اختار لها حرف القاف كروي
( قافية ) , فإنه فضح لعبة التخليل التي تمارس على المستضعفين من خلال أبواق
الدعاية الكاذبة التي تجعل الأسود بيض و
الشر خير .
في جرأة مسؤولة , و بلغة يمتزج فيها اللفظ التراثي باللفظ اليومي الحالي يقول المفتاحي :
آه بدينا نحلمو فالليل و الفياقي
لقيناها شعارات كلها غير زواق
تتخذر عقول الشبان بالأبواقي
لا تثيق أخويا بكلام دوك الأبواق .
وحين ينتقل المبدع سعيد المفتاحي إلى وصف لواعج الغربة
التي يعيشها بعيدا عن مكناس و عن الأهل و الأحبة في المغرب , فإنه لا يتردد في أن
يصرخ قائلا ما لامعناه (( قطران بلادي أحسن من عسل بلاد الغير )) , و لنتأمل في
هذه الأبيات المقتطفة من أغنية (( الغريب )) , لعلنا نحس من خلالها بالقليل مما
يحسه كل لحظة المغتربون من طينة سعيد المفتاحي :
ربنا يجمع شمل المغربين تشتات
يرد الغريب و يغفرلو في ما خطاها
الغريب فبلاد الناس يصير ثقلات
بعد كان بالهمة و الشان و جاه ضاها .
أما في تعامله مع وجدانه كإنسان رهيف الإحساس ينقطر قلبه
من كل غدر و خيانة , فإن المفتاحي يحتفظ بهدوءه , ولا يشهر سيفه في وجه من طعنه
بنبال المكر , وذلك ما يتأكد لنا حين نقراء بإمعان أغنية (( الغالية )) ذات النفس
العاطفي في هذا (( الألبوم )) يقول سعيد المفتاحي :
فين ايام المحبة و المخاوية
يوم كنا نتلقاو بالقليب طاهر
ياك العاهد جمعنا يا لغالية
على الصدق و الوفا الزاهر
ياك عشنا ايام زينة صافية
كل واحد غرامو عليه ظاهر
ياك فحبنا الناس ظلات فاهية
حتى صار عشقنا لأهل الغرام باهر .
أما في قصيدة (( أغنية
الأم )) التي عاد إليها المفتاحي بعد أن كان قد أنجزها في شكل فيديو كليب
سنة 2002 , فإنه حملنا بلغة الملحون القديم , إلى عالم العلاقة الطاهرة بين الإبن
و أمه بموسيقى عصرية يئن فيه الناي كأنه رضيع في أحضان أمه الحنون .
و على نفس النهج يسير المفتاحي في تعامله مع سرابة فصل
الربيع التي تعود إلى القرن 18 , حيث يحتفظ بكلماتها و ببنائها الإقاعي , لكنه
يعطيها بعدا جماليا آخر من خلال التركيز على تنويع الجمل الموسيقية , و جعلها بديلا لدور الكورال
التقليدي في المشاركة في إنشاد هذا النوع من السرابات .
فصاحة لسان السعيد , و إتقانه للأداء على طريقة أستاذه
الحسين التولالي , و سيره على طريق التجديد , كلها عناصر إجابية تعطي لهذا الإبداع
قيمة فنية و جمالية و معرفية , و تجعله حقا قادرا على صيانة تراث الملحون و
إنتشاره في الديار الأروبية بشكل يشرفه أولا , و المغاربة و العرب ثانيا .
هذا الألبوم خطوة غير مسبوقة في مجال فن شعبي تقليدي فضل
الكل التعامل معه دون جهد , و هاهو المفتاحي يفتح باب هذا الجهد و المجهود , فلندعمه
لإنه تعبير عن رؤيتنا لما نريد أن يكون عليه ملحوننا .
عبد المجيد فنيش
باريس 17 نونبر
2006 .
A découvrir aussi
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 8 autres membres